خيوط العنكبوت

خيوط العنكبوت
قصة : صلاح معاطي
دق الباب وانتظر لحظة. لم يفتح أحد. دقه بشدة. لم يفتح أحد أيضا. ركله بقدمه عدة مرات دون جدوى. صار يدق الباب بيديه ويركله بقدميه بنفاد صبر. نفخ بفمه في ضيق، ضرب كفا بكف في غيظ ثم سار وهو يزوم يسب ويلعن ويتوعد أثناء نزوله الدرجات.
داخل الشقة. لا أثر لحياة إنسان. الشقة غارقة في الظلام والسكون إلا من حجرة مغلقة ينبعث منها ضوء باهت آت من شمعة. خلف الباب كل شيء ساكن بلا حراك إلا من ضوء الشمعة الذي يتراقص يمينا ويسارا فيضيء بالكاد بعض الأشياء ويضفي على الغرفة مزيدا من الكآبة.
حوائط صفراء باهتة تساقط جيرها من أماكن متفرقة. تكونت في أماكن أخرى طبقات بكتيرية بيضاء صنعتها الرطوبة. نسيج العنكبوت ينتشر هنا وهناك. الأشياء ملقاة على الأرض بلا اهتمام. قطع قماش بالية، ملابس رثة قديمة اختلطت بالغبار، جرائد وأوراق مبعثرة، رائحة عطنة تملأ المكان.
الحجرة خالية من الأثاث إلا من دولاب صغير تركت ضلفتاه مفتوحتين، مقعد خشبي قديم بدون قاعدة، سرير صغير يكفي لشخص واحد تنكش فوقه غطاء بال. في ركن قبع شبح لم تبق منه سوى أطلال إنسانية بالية. جلس القرفصاء دافنا وجهه بين راحتيه. ضوء الشمعة يتراقص فوق جسده المكور على الفراش. رفع وجها شاحبا فبدت عيناه كثقبين غائرين فيه. كان يحملق في لا شيء. يجول ببصره في أنحاء الحجرة الضيقة كأنه يراها للمرة الأولى..
لليوم العاشر وهو سجين تلك الحجرة، اختلطت أنفاسه بهوائها فعاد يستنشق أنفاسه ثانية، لم ير وجه إنسان قط حتى كاد ينسى ملامح البشر.. راح يمد ساقا إلى الأمام ثم تحسس ذقنه التي لم يزرها الموس طوال الأيام الماضية. لم يلبث أن عاد يجلس القرفصاء وهو يدفن وجهه بين كفيه..
ما أسهل اتخاذ القرار، وما أصعب تنفيذه ؟
ما الصعوبة في ذلك ؟ إنه أسهل بكثير من الواقع الذي تعيشه الآن. هيا قم. انهض. السكين أمامك على الأرض. تحرك. أمسك بها هكذا. نعم. لا تخف. هيا ارفعها عاليا. اضبط أعصابك. لا تجعل يدك تهتز. لا تفكر في شيء. هيا بكل قوتك. دسها داخل صدرك.
ما أسهل اتخاذ القرار، وما أصعب تنفيذه..
ألقى بالسكين عاد يجلس القرفصاء يسند ظهره على الحائط. يتأمل عنكبوتا اتخذ مكانه في ركن من الحجرة وقد تعلق بخيوطه التي نسجها..
ما أجبن النفس البشرية. يبدو لها أنها تستطيع أن تفعل أي شيء ولكنها في الحقيقة لا تساوي شيئا.
العنكبوت منهمك في التهام صرصور ضل طريقه وافترق عن رفاقه، فانقض عليه العنكبوت بينما الصرصور يرفس وينتفض. لكن خيوط العنكبوت كانت أقوى منه أحاطته من كل جانب وبدأ العنكبوت يضرب الصرصور بمخلبيه لتزداد ثورة الصرصور وهياجه.. شيئا فشيئا بدأت ثورته تهدأ وهياجه يقل، ينتفض بضعف كأنه تحت تأثير مخدر حتى سكن تماما.. أسرع إليه العنكبوت أحاطه بمخلبيه أحكم قبضته عليه، وبدأ يلتهمه..
كان يراقب هذا المشهد تتصارع داخله أفكار عديدة متباينة، سرت داخله قشعريرة.. تلفت حوله. الحوائط صفراء كئيبة، ضوء الشمعة مازال يتراقص فيزيد من كآبتها، ملابسه الرثة ملقاة في كل مكان، كتبه وأوراقه مبعثرة هنا وهناك، الرائحة العطنة تملأ الحجرة. راح يشمشم عن مصدرها. لا يوجد سواه. تحسس ذقنه الطويلة وشعره الأشعث المختلط بعرق الأيام الماضية فاشمأز من نفسه وأحس بالغثيان.
ياله من حقير فاشل. فاشل في كل شيء. فشل في أن يموت مثلما فشل في أن يعيش. سرى داخله شعور غامض. إنه حشرة. أجل. حشرة دنيئة قذرة تهيم في الظلام باحثة عن كسرة خبز. سيطر عليه هذا الشعور. أحس بالرعب يتسلل إلى كيانه.
فجأة وقعت عيناه على العنكبوت. خيل إليه أن جسم العنكبوت قد نما بعض الشيء. لا لم يخيل إليه. جسم العنكبوت ينمو بالفعل، نسيجه يزداد اتساعا، مخالبه تزداد طولا. انكمش في فراشه وهو يحدق بوجل في العنكبوت الذي تحرك بسرعة تجاهه وقد برزت له عينان غريبتان تتحركان في كل اتجاه، بدأ نسيجه يملأ ركنا من الحائط، ازداد اتساعا فملأ الحائط كله، ثم الحائط والسقف.. بدأت معالم الأشياء تضيع من أمامه خلف نسيج العنكبوت. بدأ يتنفس بصعوبة، ما زال العنكبوت ينمو، ظهرت له مخالب وأنياب مخيفة.
انتفض صاحبنا في مكانه. الحجرة تمتلئ بنسيج العنكبوت الذي أحاطه من كل جانب. حاول الفرار، فلم يستطع التصق بالنسيج وبدأ يتملص بصعوبة. العنكبوت الضخم يقترب منه بوحشية وبدأ يلف عليه خيوطه.
حاول التراجع دون جدوى. الخيوط تحيطه من كل جانب والعنكبوت يقف له في تحد. حاول الصراخ، ضاع صوته وسط السحابة العنكبوتية التي عزلته عن العالم. العنكبوت الضخم يقترب أكثر فأكثر معتمدا على خيوطه القوية بينما هو يتراجع بصعوبة تعوقه هذه الخيوط، حتى توقف تماما، لم يستطع التراجع أكثر من ذلك. قبع في مكانه ينظر بفزع إلى هذا الكائن العنكبوتي الغريب الذي يقترب منه وهو ينظر إليه في شراسة ووحشية. راح يلف ويدور مكانه في حركات هستيرية داخل النسيج فيهتز بشدة. انقض عليه العنكبوت. أحاطه بمخالبه القوية، أخذ يضغط على رقبته بقوة. بينما صاحبنا يتلوى يتملص محاولا الخلاص من قبضته، شيء لزج يخرج من جسم العنكبوت يتسرب داخله. شعر باختناق شديد ومرارة في حلقه، يتنفس بصعوبة، قلبه يخفق بشدة، يضطرم، قواه تخور إلا من انتفاضات بطيئة، جسده يختلج أطرافه ترتعش رعشات لا إرادية، جفناه يرتخيان، شعر كأنه يرى الكون أمامه. أذناه تلتقطان كلمات كالهمس. شيء بارد يصعد إلى رأسه. تاه وسط غيبوبة أخذته بعيدا بعيدا بعيدا
فجأة.. دق الباب. لم يفتح أحد.. صاح صوت أجش بالخارج:
- اكسروا الباب وألقوه هو وأشياءه في الشارع. شهران لم يدفع أجرة البيت.
تجمع الناس حول الباب راحت أكتافهم تضرب بقوة عدة مرات اندفعوا جميعا داخل الشقة
داخل الشقة لا أثر لحياة إنسان. الشقة غارقة في الظلام والسكون إلا من حجرة واحدة ينبعث منها ضوء باهت ضعيف، يبدو أنه آت من شمعة ذابت ولم يبق إلا خيطها. راح صاحب الصوت الأجش يفتح باب الحجرة، فلم يجدوا إلا قطع قماش بالية، وملابس قديمة رثة اختلطت بالغبار ورائحة عطنة تملأ المكان. وجسدا نحيلا يتدلى في الهواء.

الكاتب :صلاح معاطي

قصة خيوط العنكبوت
الكاتب المبدع لأستاذ صلاح معاطي قرأت لك قصة خيوط العنكبوت كم هي جميلة الأسلوب سهل وبسيط وشيق وتحتمل معاني كثيرة يمكنك أن تأخذها علي العنكبوت وأيضا علي الإنسان وهي تعبر عن حالة نفسية معينة أعجبتني التشبيهات التي جاءت بالقصة والتركيبات اللغوية كما أعجبني أيضا تصويرك لحالة العنكبوت وهو يلتهم الصرصور وبالرغم من أنك لست أول من تعرض لتناول الصرصور في قصصه فالكاتب الرائع توفيق الحكيم أفرد لها مسرحية مصير صرصار ولكن وظفتها بشكل جيد ومن الغريب أننا جميعا يغرينا تمسط الصرصور بالحياة و من النهاية المأساوية للقة إلا أنها قصة رائعة ومزيد من الإبداع بالرغم